سورة الإسراء - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ} هذا مجاز عبر به عن البخيل الذي لا يقدر من قلبه على إخراج شيء من ماله، فضرب له مثل الغل الذي يمنع من التصرف باليد. وفى صحيح البخاري ومسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: ضرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديه قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه حتى تغشى أنامله وتعفو أثره وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأنا رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول بإصبعيه هكذا في جيبه فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع.
الثانية: قوله تعالى: {وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} ضرب بسط اليد مثلا لذهاب المال، فإن قبض الكف يحبس ما فيها، وبسطها يذهب ما فيها. وهذا كله خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته، وكثيرا ما جاء في القرآن، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كان سيدهم وواسطتهم إلى ربهم عبر به عنهم على عادة العرب في ذلك. وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه من الجوع. وكان كثير من الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أموالهم، فلم يعنفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم. وإنما نهى الله سبحانه وتعالى عن الافراط في الإنفاق، وإخراج ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية، والله اعلم.
وقيل: إن هذا الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خاصة نفسه، علمه فيه كيفية الإنفاق، وأمره بالاقتصاد. قال جابر وابن مسعود: جاء غلام إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا. فقال: «ما عندنا اليوم شي». قال: فتقول لك اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عريانا. وفى رواية جابر: فأذن بلال للصلاة وانتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عار، فنزلت هذه الآية. وكل هذا في إنفاق الخير. وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرام، كما تقدم.
الثالثة: نهت هذه الآية عن استفراغ الوجد فيما يطرأ أولا من سؤال المؤمنين، لئلا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، أو لئلا يضيع المنفق عياله. ونحوه من كلام الحكمة: ما رأيت قط سرفا إلا ومعه حق مضيع. وهذه من آيات فقه الحال فلا يبين حكمها إلا باعتبار شخص شخص من الناس.
الرابعة: قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} قال ابن عرفة: يقول لا تسرف ولا تتلف مالك فتبقى محسورا منقطعا عن النفقة والتصرف، كما يكون البعير الحسير، وهو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليل منقطع.
وقال قتادة: أي نادما على ما سلف منك، فجعله من الحسرة، وفية بعد، لان الفاعل من الحسرة حسر وحسران ولا يقال محسور. والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.


{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)}


{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)}
فيه مسألتان: الأولى: قد مضى الكلام في هذه الآية في الأنعام، والحمد لله. والإملاق: الفقر وعدم الملك. أملق الرجل أي لم يبق له إلا الملقات، وهى الحجارة العظام الملس. قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو حشيف *** إذا سامت على الملقات ساما
الواحدة ملقه. والأقيدر تصغير الأقدر، وهو الرجل القصير. والحشيف من الثياب: الخلق. وسامت مرت.
وقال شمر: أملق لازم ومتعد، أملق إذا افتقر، وأملق الدهر ما بيده. قال أوس:
وأملق ما عندي خطوب تنبل ***
الثانية: قوله تعالى: {خِطْأً} {خِطْأً} قراءة الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمزة والقصر. وقرأ ابن عامر {خطأ} بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة، وهى قراءة أبى جعفر يزيد. وهاتان قراءتان مأخوذتان من {خطئ} إذا أتى الذنب على عمد. قال ابن عرفة: يقال خطئ في ذنبه خطأ إذا أثم فيه، وأخطأ إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال: ويقال خطئ في معنى أخطأ.
وقال الأزهري: يقال خطئ يخطأ خطئا إذا تعمد الخطأ، مثل أثم يأثم إثما. وأخطأ إذا لم يتعمد إخطاء وخطأ. قال الشاعر:
دعيني إنما خطئي وصوبي *** على وإن ما أهلكت مال
والخطأ الاسم يقوم مقام الإخطاء، وهو ضد الصواب. وفية لغتان: القصر وهو الجيد، والمد وهو قليل، وروى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما {خطأ} بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة. وقرأ ابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة. قال النحاس: ولا أعرف لهذه القراءة وجها، ولذلك جعلها أبو حاتم غلطا. قال أبو على: هي مصدر من خاطأ يخاطئ، وإن كنا لا نجد خاطأ، ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع خاطأ، فدلنا عليه، ومنه قول الشاعر:
تخاطأت النبل أحشاءه *** وأخّر يومى فلم أعجل
وقول الآخر في وصف مهاة:
تخاطأه القناص حتى وجدته *** وخرطومه في منقع الماء راسب
الجوهري: تخاطأه أي أخطأه، وقال أوفى بن مطر المازني:
ألا أبلغا خلتي جابرا *** بأن خليلك لم يقتل
تخاطأت النبل أحشاءه *** وأخّر يومى فلم يعجل
وقرأ الحسن {خطاء} بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة. قال أبو حاتم: لا يعرف هذا في اللغة وهى غلط غير جائز.
وقال أبو الفتح: الخطأ من أخطأت بمنزلة العطاء من أعطيت، هو اسم بمعنى المصدر، وعن الحسن أيضا {خطى} بفتح الخاء والطاء منونة من غير همزة.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11